هل تصرف سويسرا لكل فرد راتبا شهريا غير مشروط؟
سيصبح الشعب السويسري هو الأول في العالم الذي يقرر ما إذا كانت الدولة ستصرف لكل مواطن، منذ الولادة وحتى الوفاة، دخلا شهريا يوفّر الحدّ الأدنى من المستوى المعيشي، بغض النظر عن العمل الذي يؤديه. هل تمثّل الفكرة حلا لمشاكل روتينية العمل أم أنها مجرد خيال بعيد المنال؟
بالمقارنة مع سابقاتها، تأتي المبادرة الشعبية "دخل أساسي غير مشروط للجميع"، التي سيصوت عليها الناخبون السويسريون يوم 5 يونيو 2016، لتقدم طرحا من منظور جديد بعد أن قضت الثورة الرقمية على العديد من فرص العمل، واتسعت الهوّة بين الأجور وأصبح يدور الحديث عن مجتمع بسرعتين، ولتنأى ولو جزئيا بالدخل وبالضمان الاجتماعي عن العمل.
ويقول المروجون لهذه المبادرة بأن تمكين كل فرد في المجتمع من دخل مضمون يؤمّن الاحتياج الأساسي للمعيشة، من شأنه أن يقضي على الفقر ويحول دون اعتماد أصحاب العوز المادي على المساعدات الاجتماعية، ويتيح لكل شخص أن يختار الوظيفة التي يحبها، ويشجع التكوين المهني والإبداع والعمل التطوعي، فضلا عن أنه يفسح مجالا أكبر للاعتناء بالأطفال وتربيتهم وتقديم الرعاية الأسرية للمرضى وكبار السن.
مبادرة شعبية أطلقها الشعب
نبعت هذه المبادرة من مجموعة من المواطنين المستقلين، ولم تشق طريقها بين الأحزاب وفي البرلمان، عارضتها قوى اليمين والوسط جملة وتفصيلا، بينما أيدها عدد قليل من قوى اليسار ومن اليساريين الخضر، وفشلت عند التصويت على مستوى مجلس الشعب (الغرفة السفلى) بأغلبية 157 صوتا مقابل 19 وامتناع 16 عضوا، بينما لم يؤيدها في مجلس الكانتونات (الغرفة العليا) سوى النائبة الاشتراكية أنيتا فيتس.
"أجد بأن من المفيد التفكير في هذه المبادرة ومناقشتها، لأنها تنطوي على فكرة قد تشكّل حلا عمليا بعد 20 أو 30 عاما، حينما تؤدي رقمنة العمل إلى خسارة كبيرة في الوظائف"، وفق قول النائبة من مدينة بازل والعضو في مجلس الأعيان.
أما ريمون كلوتو، النائب عن حزب الشعب، فقد قال من جانبه: "أعتقد بأنها مجرد فكرة عابرة وغير قابلة للتطبيق"، وانتقد "ضخامة التكاليف" وبأنها ستتعاظم.
وتقضى المبادرة التي سيصوت عليها الشعب السويسري بأن ينص الدستور على مبدأ "دخل أساسي غير مشروط" يضمن العيش بكرامة ويُصرف لكل فرد في المجتمع، دون أن تحدد المقدار، لكنها أوكلت بالمهمة إلى السلطة التشريعية. وقد حدد مروجو المبادرة بأن يكون الأساس للمناقشات 2500 فرنك للبالغين و625 فرنك للقاصرين كمبلغ شهري: "وهذا يعني، بالاستناد إلى إحصاء السكان عام 2012، بأن خزانة الدولة ستتكلف ما مقداره 208 مليارات فرنك سنويا، أي ما يعادل حوالي 35٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أمر مذهل!"، يقول النائب من مدينة نوشاتيل ريمون كلوتو.
وباعتبار أن النص المعروض للتصويت لا يحدد كيفية تأمين التمويل اللازم، لكن من المفروض أن يتم تضمين لائحة التنفيذ تشريعات بهذا الشأن في حال الموافقة على المبادرة، ووفقا للمروجين، سيتم تأمين ما يلزم من أموال، إلى حد كبير، من خلال استقطاع الرواتب وتحويل مستحقات الضمان الاجتماعي، وبالنسبة للمبلغ المتبقي والذي يقدر بحوالي 25 مليار فرنك فيمكن تأمينه بفرض ضريبة إضافية أو عن طريق توفير من الميزانية العامة للدولة.
"أعتقد أنه من المستحيل تأمين مبلغ 25 مليار عبر ضريبة إضافية في هذا الوقت بالذات"، قال ريمون كلوتو، وأشار إلى أن زيادة ضريبة القيمة المضافة وفقا لاقتراح المروجين، يعني زيادة خطية ملموسة في معدلها الحالي (8٪): "ومن شأن ذلك أن يقلل من القوة الشرائية للمواطن السويسري وأن يُضعف الاقتصاد الوطني"، على حد قول الخبير الاقتصادي.
"أنا أيضا أعارض زيادة ضريبة القيمة المضافة، لكنه مجرد اقتراح من بين جملة مقترحات، ومن المروجين، مَن يريد ضريبة مجهرية على المعاملات المالية، وبالنسبة لي، هذا أمر معقول، وأضيف إليها ضريبة على أجهزة الكمبيوتر، باعتبار أن رقمنة العمل هي مثار الجدال، ولذلك ينبغي أن تأتي المساهمة في التمويل في نفس الجهة"، على حد ذكر أنيتا فيتس.
التسبيق قبل التلحيق
وعلى أية حال، وفقا للنائبة الاشتراكية أنيتا فيتس: "من الخطأ مناقشة التمويل الآن، وليس موضوع الدخل الأساسي غير المشروط. فليس الأمر مستعجلا أو لابد من تطبيقه اليوم أو غدا، والسؤال هو: كيف سنتصرّف حينما نفقد الدخل المعتاد الذي تدره الوظيفة؟ حينما تجتاح الأتمتة وبرامج الكمبيوتر المتطورة المجتمع وتبتلع الكثير من فرص العمل، على مستوى جميع المهن، من أدناها إلى أعلاها، عندئذ لابد وأن تكون عندنا إجابة" فمن الأفضل أن نعدّ لها مسبقا بدلا من أن نلهث وراءها، بحسب قولها.
وبدوره، يرد ريمون كلوتو: "بهذه المبادرة، لسنا نتواقى، وإنما نضع العربة أمام الحصان، ومع الوقت سنفكر في كيفية توليد وظائف، وحتى وإن تغلغلت الالكترونيات فإن الحاجة إلى الإنسان تبقى قائمة، ومن حيث المبدأ، فإن خلف كل جهاز كمبيوتر إنسان، وقد تختفي فرص عمل، ولكن تنشأ فرص أخرى جديدة، والاستباق الحقيقي يتأتّى من خلال تعزيز الصلة بين التكوين المهني والاقتصاد، ويجب علينا أن نكون متيقظين بشأن التكوين المهني بالذات، وأن نجعله يواكب الحاجة الاقتصادية والتطورات التكنولوجية".
ومن بين الانتقادات الموجهة للمبادرة، والتي أثارها اليمين واليسار، أنها تهدد نظام الضمان الاجتماعي السويسري بكامله، غير أن أنيتا فيتس أشارت من جانبها إلى أن: "الدخل الأساسي غير المشروط لن يحل محل جميع التأمينات أو الضمانات الاجتماعية القائمة، والتي يبلغ عددها حاليا ثلاثة عشر تأمينا، وتقليل عددها يمكن أن يشكّل فرصة لتطوير هذا النظام بحيث يتكيّف مع التحديات الجديدة"، وفق قولها، وأضافت بأنه من غير المعقول أن نستمر في نظام يقوم على مبدأ العمالة الكاملة، بينما تلوح في الأفق تغييرات كبيرة.
بينما يرى ريمون كلوتو أن من شأن الدخل الأساسي غير المشروط أن يشكّل خطرا: "يهدد نظام الضمان الاجتماعي، الذي لا يخلو من عيوب إلا أنه يقوم بدوره بقدر كاف، ويحفز على العمل وعلى التأهيل المهني، ولذلك من الواجب علينا أن نسعى إلى تحسينه وتعزيزه"، وعدم تشريع مخصصات مالية من شأنها أن تشكلّ عبئا على العامل والمُشغِّل وتثبّط العزائم عن العمل".