ما هي النقود؟
قديماً كان الناس يتبعون نظام المقايضة كوسيلة للحصول على السلع والخدمات التي يحتاجونها، لكن نظام المقايضة مليءٌ بالمشاكل التي تجعل من عملية تبادل السلع والخدمات أمراً صعباً. لتبسيط وشرح عملية المقايضة لنفترض أن هناك شخصان، يمتلك كل واحد منهما سلعةً يحتاجها أو يريدها الآخر مما يؤدي إلى دخولهما في اتفاق لمبادلة هذه السلع فيما بينهما. هذه هي المقايضة بشكلها البسيط، لكن مشكلة المقايضة أنها لا توفر إمكانية النقل والقسمة التي تزيد من كفاءة التبادل التجاري، كما أن مشكلتها الكبرى أنها تعتمد على الصدفة (صعوبة توافق رغبات الأشخاص) فعلى سبيل المثال قد يكون لديك أبقارٌ ولكنك تحتاج إلى الموز، في هذه الحالة يجب عليك إيجاد شخص يمتلك موزا ً ويرغب بمبادلته باللحم. وقد تجد شخصاً يحتاج للحم الذي بحوزتك ولكنه يملك الأرانب بدلاً عن الموز، في هذه الحالة يتحتم على الشخص الذي يملك الأرانب البحث عن من يملك الموز ومبادلته بالأرانب حتى يحصل على اللحم الذي في حوزتك.
إنّ عدم وجود إمكانية لنقل البضائع التي تمت مقايضتها أمر متعب ومربك وغير فعال، المشكلة لا تكمن هنا فقط بل وتمتد إلى أمر أعقد من هذا، إذ لو أنك وجدت شخصاً يعطيك موزاً بدل اللحم، فهل تعتقد أن قرطاً من الموز يستحق بقرة كاملة؟؟ الجواب سيأتي بالنفي طبعا، مما سيضطرك لإيجاد طريقةٍ لتقسيم البقرة وتحديد كمية الموز التي تنوي أخذها مقابل أجزاء معينة من بقرتك. (ويا للفوضى!).
لحلّ هذه المشاكل بدأ استخدام السلع الأساسية كنقود، حيث يعتمد هذا النوع من النقود في قيمته على على قيمة السلعة المستخدمة كنقود. من أمثلة هذا النوع من النقود ما استخدمه المستعمرون القدماء كنقود من جلود القنادس والذرة المجففة لتسهيل مبادلاتهم التجارية. يتم اختيار هذه السلع لعدد من الأسباب، أهمها كونها مرغوبة بشكل كبير مما جعلها قيّمة، كما أن كونها متينة وسهلة الحمل والتخزين يجلعها مطلوبة. إن عملة الولايات المتحدة الأمريكية قبل عام 1971 تعتبر مثالاً آخر عن استخدام السلع كنقود، حيث كانت قيمة النقود مدعومة بقيمة بالذهب، وكانت الحكومات الأجنبية آنذاك قادرة على مبادلة عملة الولايات المتحدة الأمريكية (الدولار) بالذهب بواسطة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. لكن ما الذي يعطي النقود قيمتها؟ إذا نظرنا للذهب على سبيل المثال فإن ما يعطيه قيمته ليس كونه مصدرا ً غذائياً للبشر، أو مصدر دفءٍ للناس في ليالي الشتاء القارصة، بل إن ما يعطيه قيمته هو رغبة الناس بالحصول عليه حيث أنهم يرونه جميلاً، ويعتقدون أن غيرهم يرونه جميلاً أيضاً مما يجعله سلعة ثمينة.
الانطباعات هي التي تخلق كل شيء:
النوع الثاني من النقود هو النقود الورقية التي ألغت الحاجة لاستخدام السلع كنقود، حيث تم استبدال السلع المادية كالذهب وغيره بنقود ورقية تعتمد قيمتها على ثقة الناس وايمانهم بحكوماتهم. هناك نظرية تقول بأن ظهور النقود الورقية راجع لكون الذهب مورداً نادراً وأنه ليس باستطاعة الاقتصادات النامية أن تنقب بسرعة عن ما يكفي من الذهب لدعم الطلب النقدي. يضيف أنصار النظرية السابقة (نظرية النقود الغير مدعومة بالذهب) أن الإعتماد على الذهب لإعطاء قيمة لعملة بلد ما ذو اقتصاد مزدهر أمر غير مجدٍ ولا فعال، خصوصاً عندما تكون قيمة العملة مستمدة من ثقة الناس بحكوماتهم، وبذلك تصبح النقود الورقية تطبع بناء على ثقة الناس.
إن اتجاه اقتصاد ما نحو النمو يعني قيامه بإنتاج منتجات ذات قيمة للاستخدام المحلي أو التصدير وهذا أمر جيد جدا لا يمكن إنكاره. عموما كلما كان اقتصاد بلد ما قوياً كانت عملته قوية ومطلوبة والعكس صحيح. لكن قوة ونمو اقتصاد ما يجب أن يكون مدعوما بإنتاج ما يحتاجه المجتمع من سلعٍ وخدمات، وليس فقط مجرد إنتاج. إن طباعة وضخ الأوراق النقدية في النظام المالي لن يزيد الدولة ثراءً إلا عند وجود تفاعل متواصل ودائم بين ما يتم انتاجه من سلع وخدمات، وحاجة الناس لها، إضافة إلى إيمانهم بقيمة النقود وقدرتها على إشباع حاجاتهم.
كيف يتم قياس النقود؟
النقود ليست فقط عبارة عن تلك الورقة من فئة العشر دولارات التي يتبادلها الناس، وإنما تشمل مفهوما أوسع فهي تشمل الحسابات الإئتمانية الرقمية المودعة في البنوك، فعندما يقوم بنك ما بإعطاء قرض لأحد عملائه فإنه في الواقع يقوم بعملية خلق النقود.
لكن كيف يمكن قياس كمية النقود الموجودة؟ وما هي الأشكال الأخرى التي تتخذها؟؟
يطرح هذا التساؤل مرات عديدة بين الاقتصاديين والمستثمرين وذلك للإطلاع على حالة النظام المالي وحول إذا ماكان هناك تضخم أو انكماش مالي.
عموما تقسم النقود إلى ثلاث فئات وذلك لجعلها أكثر قابلية للقياس، وتتضمن هذه الفئات مايلي:
M1 تتضمن هذه الفئة جميع العملات والنقود والودائع تحت الطلب التي يجري فحص حساباتها والحسابات الحالية والشيكات السياحية. تعتبر هذه الفئة الأضيق بين الفئات الثلاثة الأخرى، ويمكن تعريفها على أنها النقود المستخدمة للتسديد والدفع.
M2 تمتلك هذه الفئة معايير أوسع، حيث أنها تشمل كل النقود المذكورة في فئة M1 إضافة إلى جميع أنواع الودائع الآجلة، وودائع الإدخار وصناديق أسواق المال غير المؤسساتية، وتمثل هذه الفئة النقود التي يمكن تحويلها بسهولة إلى نقد.
M3 أوسع فئة من الفئات الثلاثة، وتجمع كل ما تم ذكره في M2، بالإضافة إلى كل الودائع طويلة الأجل، وصناديق أسواق المال المؤسساتية، واتفاقات إعادة الشراء قصيرة الأجل جنباً إلى جنب مع غيرها من الأصول السائلة.
من خلال جمع هذه الفئات الثلاث نحصل على العرض النقدي للبلد أو المبلغ الإجمالي للنقود في الاقتصاد.
كيف تُصنع النقود؟
بعد التطرق إلى عدة نقاط هامة فيما يتعلق بالنقود من حيث تعريفها، وكيف تحصل على قيمتها، وفئاتها، نرى أنه من المناسب أن يتم التعرض للطريقة التي يتحكم فيها البنك المركزي بالعرض النقدي في السوق (السياسة النقدية). سيتم اتخاذ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مثالاً لشرح فكرة دور البنك المركزي في صناعة النقود والإئتمان. بداية تعتبر البنوك المركزية في كل بلدان العالم المتحكم الأساسيّ في المعروض النقدي وذلك من خلال أدوات نقدية عدة أهمها ( سعر الفائدة، نسبة الإحتياطي الإلزامي القانوني، كونها ملجأ البنوك المتعسرة الأخير). لتبسيط وظيفة البنك المركزي فيما
يتعلق بتأثيره في مستوى العرض النقدي دعونا نطّلع على المثال المبسط التالي:
أولاً يجب علينا التسليم بفكرة أن البنك المركزي قادر على زيادة المعروض النقدي من خلال طباعة المزيد من الأوراق النقدية التي لا تكلفه سوى بضع سنتات. لكن طباعة الأوراق النقدية ليست الطريقة الوحيدة التي يتم من خلالها زيادة المعروض النقدي إذ أن البنك المركزي قادر على لعب دوره من خلال طرق أخرى نذكر منها (عمليات السوق المفتوحة). يقوم البنك المركزي من خلال عمليات السوق المفتوحة بشراء سندات الدين الحكومية في السوق أو بيعها بناءً على طبيعة السياسة النقدية التي يراها مناسبة. فقد يتوجه البنك لشراء سندات الديون الحكومية وذلك بغرض زيادة العرض النقدي في السوق ( يشتري سندات من الشعب، مقابل سيولة مادية)، في المقابل قد يقوم المركزي ببيع السندات التي في حوزته للشعب وذلك لسحب السيولة المالية المتداولة من السوق (غالبا يتم ذلك لامتصاص التضخم العالي في السوق).
لكن من أين يأتي البنك المركزي بالأموال التي يشتري بها السندات من الشعب؟ في الواقع أن هذه الأموال كما ذكرنا سابقا هي عبارة عن أموال تم خلقها من لاشيء.
ختاماً:
تذكّر أنه كلما زادت ثقة الناس بالعملة، كلما استطاع البنك المركزي إصدار المزيد منها، ولكنّ إصدار المزيد من النقود يعني انخفاض قيمة العملة، كما هو الحال مع ازدياد المعروض من السلع والخدمات الأخرى بشكل عام، إذ كلما زاد العرض مقابل الطلب انخفض سعر المعروض.
لذلك وعلى الرغم من أنّ البنك المركزي قادر من الناحية الفنية على خلق النقود من لا شيء، لكنه ببساطة لا يستطيع طباعة المال كما يريد (لابد من سياسة مالية دقيقة وإلا ستنهار عملة الدولة ويتبعها إنهيار الدولة بشكل كامل).