في السنوات الأخيرة، اتخذ اقتصاد الصين مساراً مذهلا: فتحول من محرك لم يسبق له مثيل إلى خطر عالمي عظيم، على الأقل في نظر البعض. والواقع أنه بعد أن بات من شبه المؤكد أن نمو الناتج المحلي الإجمالي هذا العام لن يبلغ نسبة الـ 7% المستهدفة من قِبَل السلطات، يراقب العالم الآن عن كثب بحثاً عن علامات تدل على الأزمة والتباطؤ بشكل أكثر حِدّة. ولكن كيف وصلت الصين إلى هذه النقطة، وهل تستطيع أن تعيد نموها الاقتصادي إلى المسار الصحيح؟
كان النمو في الصين غير مستدام لفترة من الوقت. فقد نجحت حزمة التحفيز التي تألفت من استثمارات غير حكيمة في أصول ثابتة، والتي تبنتها الحكومة في الاستجابة للأزمة المالية العالمية عام 2008، في الإبقاء على نمو الناتج المحلي الإجمالي عند معدل 9% لعامين. ولكن بعد عام 2011، تحولت الحوافز إلى إحكام الاقتصاد الكلي، الأمر الذي أدى إلى هبوط نمو الاستثمار من معدل اسمي تجاوز 30% إلى نحو 10% مؤخرا. وهذا يمنع الاستفادة الكاملة من القدرة الإنتاجية والموارد، ويفسر لماذا أصبح نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة أعلى من 7% أمراً غير ممكن ببساطة.
إن كلاً من القدرة الفائضة والنمو المتراجع يعزز أحدهما الآخر. ولا تخلف القدرة الفائضة تأثيراً سلبياً على النمو فحسب؛ بل لعل الأمر الأكثر أهمية هو أن انخفاض النمو الحاد يساهم أيضاً في زيادات هائلة عن الحاجة في بعض الصناعات (وخاصة الموارد والصناعات الثقيلة والكيماوية).
والسؤال هو لماذا يستمر النمو في التباطؤ. يركز أحد الخطوط الشعبية في تفسير هذا الأمر على عوامل بنيوية طويلة الأجل، مثل التحول الديموغرافي. ولكن حتى الآن، أشارت قِلة من الدراسات إلى أن العوامل البنيوية قد تكون كافية لتفسير مدى الانحدار في معدل النمو المحتمل في الصين على مدى العامين الأخيرين.
تكمن إجابة أكثر إقناعاً في موقف السياسة النقدية في الصين. فمنذ توليه مهام منصبه في عام 2013، اختارت حكومة لي كه تشيانج عدم تخفيف السياسات الكلية الصارمة التي تبنتها الحكومة السابقة، وكانت تأمل بدلاً من ذلك أن تساعد الضغوط الناجمة على الصناعات القائمة في تحفيز التحول البنيوي الذي تسعى السلطات إلى فرضه نحو الاستهلاك الأسري والخدمات. وقد رحب أهل الاقتصاد بهذا النهج المعقول ظاهريا، والذي من شأنه أن يعمل على إبطاء التوسع الائتماني الذي ساعد في تمكين التراكم الهائل للديون في الفترة 2008-2010. وأطلِق على مسار النمو المنخفض في الصين وصف "المعتاد الجديد".
ولكن لكي ينجح هذا النهج، فلابد أن يظل نمو الناتج المحلي الإجمالي ثابتا، لا أن ينخفض بشكل حاد. وهو ما لم يحدث. بل وبرغم استمرار التعديل البنيوي في الصين، يواجه الاقتصاد تراجعاً متزايد الخطورة في الطلب مع استمرار الانكماش. وقد ظل مؤشر أسعار المستهلك عند مستوى أقل من 2%، وكان مؤشر أسعار المنتِج سلبياً طيلة 44 شهرا.
في بلد حيث يتوفر هذا الكم الهائل من السيولة ــ يعادل المعروض من المال ضعف الناتج المحلي الإجمالي في الصين ــ من غير المنطقي أن تواصل تكاليف الاقتراض الارتفاع. والمشكلة هي أن الحكومة حافظت على سعر فائدة قياسي معدل وفقاً لمؤشر أسعار المنتِج يتجاوز 11%. وتسجل أسعار الفائدة ارتفاعات هزلية تصل إلى 20% في قطاع الظل المصرفي، بل وترتفع إلى مستويات أعلى من ذلك في بعض القروض الخاصة.
والنتيجة هي ارتفاع تكاليف التمويل بشكل مفرط، وهو الأمر الذي جعل من المستحيل بالنسبة للشركات في العديد من الصناعات التحويلية الحفاظ على الربحية الهامشية. وعلاوة على ذلك، كان إغلاق منصات تمويل الحكومات المحلية، جنباً إلى جنب مع سقف الائتمان المفروض من قِبَل الحكومة المركزية، سبباً في دفع الإنفاق الرأسمالي المحلي على الاستثمار في البنية الأساسية إلى الانخفاض إلى مستويات غير مسبوقة تاريخا. كما عملت القيود المالية المتزايدة الإحكام على إضعاف النمو في القطاع العقاري بشكل كبير. ومع نضال الحكومات المحلية والشركات من أجل سداد أقساط الفائدة، دُفِع بها دفعاً إلى حلقة مفرغة، حيث تقترض من قطاع الظل المصرفي لتلبية التزاماتها، وبالتالي يُدفَع بسعر الفائدة الخالي من المخاطر إلى المزيد من الارتفاع.
وإذا كانت أسعار الفائدة الحقيقية المفرطة الارتفاع تعمل على تقويض الطلب المحلي الذي تحتاج إليه الصين لعكس اتجاه التباطؤ الاقتصادي، فمن الطبيعي أن يتساءل المرء لماذا لا تتخذ الحكومة الخطوات الكفيلة بخفضها. تتلخص الإجابة الواضحة في التزام الحكومة الأساسي بتحويل الاقتصاد بعيداً عن النمو القائم على الاستثمار والتصدير.
ولكن من المشكوك فيه أن تكون الصين قادرة على تحقيق ما تسعى إليه من إعادة التوازن بالاعتماد على الاستهلاك. فلم يتمكن أي اقتصاد عالي الأداء في شرق آسيا من تحقيق إعادة التوازن على هذا النحو في الماضي، والصين لديها نموذج نمو مماثل.
ونظراً لهذا، فغن الانكماش الحالي في الصين لابد أن يحفز صناع السياسات هناك على ملاحقة التيسير النقدي، بخفض أسعار الفائدة الحقيقية إلى مستوى أدنى كثيرا، بل وحتى إلى الصِفر. ومثل هذه الخطوة ــ التي تتمتع الصين بحيز كبير من الحرية لاتخاذها ــ لن تمكنها من خفض أعباء الديون القائمة فحسب؛ بل وربما الأمر الأكثر أهمية أنها سوف تسمح أيضاً بتجديد الدين مع تسارع الاقتصاد.
بل ولأن أغلب القروض المصرفية في الصين ــ خلافاً لأوروبا على سبيل المثال ــ أصبحت الآن حبيسة مشاريع البنية الأساسية وغير ذلك من الأصول المادية، فإن تعزيز الطلب أفضل من خفض الديون. والمفتاح إلى هذا هو خفض أسعار الفائدة بالقدر الكافي لتخفيف المخاطر المالية المترتبة على الاستدانة المفرطة وتمكين إعادة هيكلة ديون الحكومات المحلية. وسوف تعمل تكاليف الاقتراض المنخفضة أيضاً على تعزيز السوق الرأسمالية في الصين، وهو أمر بالغ الأهمية لتوفير تمويل أسهم رأس المال للشركات المبدعة الصغيرة والمتوسطة الحجم.
بطبيعة الحال، تحتاج الصين إلى مواصلة شطب ومقايضة الديون، ويتعين عليها أن تبقى على مسار الإصلاح البنيوي التدريجي. ولكن يتعين على صناع السياسات أن يدركوا أولاً حجم الضرر الناجم عن الارتفاع المفرط لأسعار الفائدة الحقيقية. ويشكل التيسير النقدي أمراً بالغ الأهمية لمنع النمو من الانزلاق إلى المزيد من التباطؤ، وبالتالي يصبح في الإمكان ضمان الاستقرار الاقتصادي في الداخل والحفاظ على زخم التعافي في مختلف أنحاء العالم.