لسنا في حاجة إلى ذكر أدلة فرضية الصيام، لأن ذلك معلوم من الدين بالضرورة، ويكفي أن يعلم المسلم أنه أحد الأركان الذي بني عليها الإسلام.
والمقصود هنا بيان أثر الصيام في تزكية النفس وتطهيرها، وكونها سبيلا لتأهيل المسلم لطاعة الله والبذل في سبيله.
وآثار الصوم في حياة المسلم كثيرة جدا، وسيجد القارئ في كلام الكتاب عن هذه الآثار جزئيات كثيرة، مثل الصبر، وتذكر أحوال الفقراء والمحتاجين، عندما يمس الجدوع والعطش الصائم، فيحدوه ذلك إلى مساعدة أولئك المحتاجين....
لكن تلك الآثار –مهما كثرت وتعددت-ترجع إلى أصل واحد من آثار الصيام، وهو تقوى الله التي يثمرها الصيام في نفس الصائم، فإذا تحقق له هذا الأصل، تحققت له جميع الآثار المتفرعة عن عنه.
ولهذا سأكتفي بالحديث عن هذا الأصل، وأسوق فيه كلام بعض العلماء، وبخاصة المفسرين الذي سطروه في كتبهم عند تفسيرهم لآيات الصيام.
وسأذكر نصا واحدا من الأحاديث النبوية الدالة على أن الحكمة من تشريع الصوم هي أن يكتسب الصائم منه تقوى الله تعالى، التي تدفعه إلى طاعة الله وتحجزه عن معاصيه.
فعلى المسلم الصائم أن يختبر نفسه، وهو يؤدي هذه الفريضة العظيمة، هل اكتسب من صومه تقوى ربه، فحافظ على طاعته بفعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه؟ فإن وجد نفسه كذلك، فليحمد الله، وليستمر في سيره إلى ربه جادا في طلب رضاه عنه.
وإن وجد غير ذلك، فليراجع نفسه ويجاهدها على تحقيق ما شرع الصوم من أجله، وهو تقوى الله، التي لا يهتدي بالقرآن –أصلا-إلا أهلها.
فقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن العظيم، لا ينتفع به ويهتدي بهداه إلا المتقون.
فالقرآن- وإن نزل لدعوة الناس كلهم إلى طاعة الله وتقواه-لا يهتدي به في الواقع إلا أهل التقوى، كما قال تعالى: ((الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة: -2]
ومن أهم العبادات التي تكسب المؤمن تقوى الله الصيام، وبخاصة صيام شهر رمضان، كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة: 183]
وإنما يثمر الصيام التقوى، لما فيه من إلزام الإنسان نفسه بطاعة ربه في اجتناب المباحات التي أصبحت محرمة عليه، بعد شروعه في الصيام.
وحقيقة التقوى، امتثال أمر الله بفعله، وامتثال نهية باجتنابه.......
والمؤمن عندما يدع ما تشتهيه نفسه من المباحات والطيبات، طاعة لربه سبحانه، يكون أكثر بعدا عما هو محرم عليه في الأصل، وأشد حرصا على فعل ما أمره الله به.
وقد دل الحديث الصحيح على أن الله تعالى شرع الصيام ليثمر في الصائم هذا الأصل، وهو تقواه، وأن الذي لا يثمر فيه صومه التقوى يعتبر عاطلا عن حقيقة الصيام، ولو ترك طعامه وشرابه...
كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) البخاري 2/673
ولوضوح النصوص من القرآن والسنة في أن الغاية الأساسية من الصوم تقوى الله، رأى ابن حزم رحمه الله، أن جميع المعاصي التي تصدر من الصائم تفسد صومه، ولو لم تكن طعاما وشرابا وجماع، كالنميمة والغيبة...
وأثبت هنا خلاصة لكلامه:
"734 مسألة ويبطل الصوم أيضا تعمد كل معصية أي معصية كانت لا تحاش إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه كمباشرة من لا يحل له من أنثى أو ذكر أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له من أنثى أو ذكر أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما أو كذب أو غيبة أو نميمة أو تعمد ترك صلاة أو ظلم ذلك من كل ما حرم على المرء فعله
برهان ذلك...... (ما رواه أبو هريرة) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)..... [و] عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))
وخالفه في ذلك جماهير العلماء، ولهذا قال الحافظ في الفتح: "وأفرط بن جزم فقال يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلا أو قولا لعموم قوله فلا يرفث ولا يجهل، ولقوله في الحديث الآتي بعد أبواب: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه..."
أقوال العلماء في حكمة فرضية الصوم وأثره في حياة المسلم:
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين، من هذه الأمة، وآمرا لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة- إلى أن قال-في قوله تعالى ((لعلكم تتقون)): لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)" [تفسير القرآن العظيم01/213)]
وقال في تفسير المنار على قوله تعالى: ((لعلكم تتقون)): "هذا تعليل لكتابة الصيام، ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى، بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة، امتثالا لأمره، واحتسابا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام نصف الصبر) رواه ابن ماجه، وصححه في الجامع الصغير) [تفسير المنار: (2/145)]
وقال سيد قطب، رحمه الله في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)): "وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثارا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب، من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس بالبال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أداتها وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم، هدفا وضيئا يتجهون إليه عن كريق الصيام" [في ظلال القرآن: (2/168)]
وهنا نلفت النظر إلى الارتباط بين قوله تعالى في أول سورة البقرة: ((هدى للمتقين)) [الآية: 2] وبين قوله تعالى في أول آيات الصيام: ((لعلكم تتقون)) وقوله في آخر هذه الآيات: ((ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) [البقرة: 185]
فقوله تعالى: (( هدى للمتقين)) بين فيها أن هداية هذا القرآن، لا ينالها حقيقة إلا أهل التقوى.
وقوله: (( لعلكم تتقون)) بين فيها أن الصيام طريق من الطرق الموصلة إلى التقوى.
وقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم...)) بين فيها أن الهداية قد حصلت للصائمين الذين منحهم الله بصومهم التقوى، والمتقي المهتدي جدير بأن يشكر الله على منحه التقوى والهداية: ((ولعلكم تشكرون))
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ((لعلكم تشكرون)) : "أي إذا قمتم بما أمركم الله، من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك" [تفسير القرآن العظيم: (1/218)]
وقال سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية ((ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)): "فهذه غاية من غايات الفريضة، أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام، أكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها.
وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبه إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث: ((لعلكم تتقون))
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير" [في ظلال القرآن: (2/172)]
ولما كانت النفس البشرية تتوق إلى تناول ما تشتهيه، وتنفر عن ترك ذلك، فإن من أعظم ما يزكيها ويطوعها لطاعة ربه، أن تُدَرَّب على الصبر عن تناول الطيبات التي أباحها الله تعالى لها، إذا أمرها بتركها.
ومن أعظم شهوات النفس الطعام والشراب والجماع، وقد حرم الله على المؤمن هذه الأمور التي لا يستغني عنها في حياته كلها، في نهار شهر رمضان بأكمله، فإذا تركها مخلصا لله في تلك المدة من الزمن، فإنه بذلك يكون جديرا بأن يكون من المجاهدين لأعدائه الملازمين، وهم نفسه الأمارة بالسوء، والهوى المردي، والشيطان الرجيم.
والذي ينجح في هذا الجهاد، يسهل عليه الجهاد الخاص، وهو قتال عدوه الخارجي من اليهود والنصارى والوثنيين، ومن لم ينجح في جهاد عدوه الملازم، يصعب عليه جهاد عدوه الطارئ، لأن الذي لم يروض نفسه على طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، فيما هو أخف عليه، كالصيام مثلا، فمن الصعب عليه أن يقف في الصف لمقارعة الأعداء يستقبل بصدره ونحره قذائف المدافع ورصاص البنادق، وأطراف الرماح وحد السيف.
وتأمل الأسلوب الذي فرض الله به القتال على المسلمين، تجده نفس الأسلوب الذي فرض الله به الصيام، إلا أنه بين في الصيام أنه أداة لتقواه، وبين في فريضة القتال، انه فرضه عليهم وهو كره لهم، ومعلوم أن التقوى هي التي تعين المسلم على الصبر على ما تكرهه نفسه، وهو الجهاد في سبل الله، قال تعالى: ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شبئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) [البقرة: 216]
وقال في الصوم: (( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم))