قبل أن نبدأ فى التحليل الاساسى للجنيه المصرى والدولار ومناقشة افلاس مصر تأثرا بالعلاقة المتأزمة بينهما .. نحكى قليلا فى الادب والشعر .. والأدباء وإن كانوا لم يرزقوا اجادة الحساب الا أن الله أعطى بعضهم نفاذ البصيرة للحقيقة فيدركونها .. فيكتبونها أدبا (شعراونثرا) تتغنى بها الشعوب وتقرأها على مدار السنين ..
وسوف اقتطف شيئين لأديبين أحدهما شاعر قديم وهو المتنبى .. والثانى روائى حديث وهو نجيب محفوظ فهما يطلان علينا الآن ببصيرتهما النافذة ..فيما نحن فيه ..
اما المتنبى فهو صاحب هذا البيت الشهير
يقول أهل تاريخ الأدب عند شرح قصيدة المتنبى الشهيرة المأخوذ منها البيت ..
كان أبو الطيب وصل إلى مرحلة اليأس والقنوط والإحباط في مصر ، ودخل في مرحلة نفسية معتمةٍ ، فلا هو في العير ولا هو في النفير .. أهمل مجالسَ كافور ، فما عاد يتردد عليها ، وحين كان يطلب منه قصيدة مادحة كان الشاعر الحزين يرفض القول والنشيد فلا ينقاد للطلب .. وهجَر عِشرةَ الناس ، ولقاءَهم ، وصار ينفرد بذاته ، ويخلو بنفسه، ويجتر آلامه ، ويرسم الخطط التي تنقذه من هذا الشَّرَك الذي أوقعه به كافور .
وبدأ المرجل النفسي يغلي شيئاً فشيئاً ، ويضطرب ويزداد اضطراباً ، ثم راح يقذف بالزبد ، ويتعالى صوت جَيَشانه .. وقبل أن يطفح الكيل ، جاء إلى كافور وسأله صراحة عن وعده بحكم ضيعة أو ولاية أو أي مكان .. وبَيَّن له أنه ما قدِم إلى مصر إلا بعد أن اطمأنّ إلى وعوده البراقة . فأجابه كافور :
" أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سَمَتْ نفسك إلى النبوة ، فإن أصبتَ ولاية صار لك أتباع ، فمن يطيقك ؟ " .
ولم يخطئ كافور في تعرف نوايا أبي الطيب ، فقد أدرك حقيقة مشاعره نحوه ، وكان يعلم أنه سيفرُّ من الفسطاط عند سنوح أول فرصة ، وأنه سيعقب فراره بشعر هجائي وسخرية لاذعة ، فنشر الجواسيس يراقبون أبا الطيب ؛ وعرف المتنبي كل هذا ، فكظم غيظه وأخفى عواطفه وخططه
ويبدو أنه أتخذ لنفسه حراساً انتقاهم من عبيده الأشداء لمقاومة كل هجوم محتمل ، وكانت خطته زيادة في إمكانية نجاحها أن يغتنم فرصة احتفالات الناس بعيد الأضحى للخروج من الفسطاط ، وكان التاسع من شهر ذي الحجة ، وهو مناسبة تجري فيها مراسم واستعراضات ، تجلب جمهوراً كبيراً من الناس ، وهي خير فرصة للهرب والتخفي .
في اليوم التاسع من الشهر المذكور ، خرج المتنبي سراً من الفسطاط ، تتقدمه الإبل المحملة بالسلاح والأمتعة والزاد لعدة أيام ، وأغذَّ السير ، فاجتاز برزخ السويس ، ثمّ أوغل في صحراء التيه شمالي سيناء .
وتنبه القوم بسرعة إلى فراره ، فلم يستطيعوا اللحاق به ؛ وكان غيظ كافور شديداً جداً ، وأراد المتنبي بعد أن أصبح بعيداً وآمناً أن يشهَد الناس مرة واحدة– على الأقل ـ على الازدراء الذي يكنّه لسيده القديم ، وتولت أيدٍ أمينةٌ إيصالَ قصيدة هجائية مقذعة إلى الخصيِّ كافور ، ولكن العملية لم تنجح ، لأن كافوراً شكّ في محتواها ، فأمر بإحراقها ، ولم يقف على ما فيها .
وما يهمنا فى قصيدة المتنبى وهجائيته هنا تنبهه لحقيقة ثروات مصر فبرغم السرقة والنهب من وجهائها وغفلة الحراس عنها الا أن عناقيد خيرها باقية لا تنفذ ..
وظل هذا البيت هو الأشهر فى الاستشهاد عند كل السياسيين المعارضون لنظم الحكم .. أيا كان المعارض أو الحاكم .. كان الجميع يستشهد بهذا البيت انه برغم السرقة والنهب من خيرات البلد .. فإن خيرات البلد باقية .. وما تفنى عناقيدها ..
حتى داهمتنا هذه الأيام بالحملات الاعلامية الغريبة ليل نهار عن إفلاس مصر .. هكذا .. بكل بساطة ..
***
اما عن الأديب الثانى فهو نجيب محفوظ .. وكان قد دخل بعد المحاولة الفاشلة لإغتياله فى كتابة النص المختصر المكثف (بعكس مطولاته الأدبية الأخرى) .. وكان من آثار هذه المرحلة مجموعة ومضات أدبية أسماها .. أحلام فترة النقاهة .. منها هذا الحلم الذى اخترته ..
وحاولت النداء لكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد . أما الاطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم , ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم الى هيكل عظمى , وشعرت بأنه كان يجب على ان افعل شيئا اكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى وأذهلنى أن الاطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم , ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى انا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل .
وفى هذا الحلم يرمز نجيب محفوظ الى مصر بإمرأة ريانة الجسد .. تعبيرا عن خيرها وثرائها .. وظل الشجرة على شاطئ النيل تعبيرا عن الاستقرار والطمأنينة والراحة والتى يهبها لنا النيل .. ثم يصف سلوك أهلها معها ..
وهو الأمر الذى ما لم ننتبه الى ما نحن فيه وما يراد لنا فسوف ينتتهى الأمر بنا (لا قدر الله ) الى تحقق نبؤءة نجيب محفوظ رحمة الله عليه .. ونسأل الله السلامة للبلاد والعباد ..