مصر الدولة السادسة.. ماذا حدث للدول الخمس التي عوّمت عملتها الوطنية؟
استيقظت مصر صباح الخميس 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، على قرار البنك المركزي بتحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، والسماح للبنوك بتحديد سعر الصرف بالكامل وفقاً لآليات العرض والطلب، ليقفز السعر إلى ما بين 15 و16 جنيهاً في البنوك، ولتنخفض قيمة الجنيه رسمياً قرابة 45 إلى 50%.
يأتي هذا القرار وسط حالة من الجدل تتعلق بخطورة القرض الذي وصلت دفعته الأولى منذ أيام وأهميته، إذ يرى البعض أنه مقدمة لتدخلات واضحة من قبل الصندوق فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، واشتراطاته التي يمكن أن تؤثر على المواطن المصري البسيط، ومنها تعويم الجنيه ورفع الدعم.
وفي نفس الإطار، ظهرت بعض التدخلات فيما يتعلق باشتراطات سداد المستحقات المالية لشركات البترول وتسوية مديوناتها من قبل الحكومة المصرية، كما نشرت السفارة البريطانية في بيان لها.
كل هذه الأمور حملت بعض المخاوف من إمكانية هيمنة أجنبية على الاقتصاد المصري، قد تتسبب في إضعاف مصر وتعرضها للمزيد من الانهيار الاقتصادي على غرار دول أخرى تسببت سياسات صندوق النقد في معاناتها اقتصاديًا، في المقابل هناك تجارب إيجابية يراهن البعض على أن مصر ستكون إحداها.
تجارب ناجحة وأخرى فاشلة
التعويم، الذي يعد ثالث محاولة مصرية بعد تجربتين فاشلتين لم يكتب لهما النجاح، في عهد الرئيسين السابقين السادات ومبارك، طرح السؤال التقليدي حول مصير التجربة المصرية من النجاح والفشل في ظل نجاح تجارب دول أخرى قليلة وفشل غالبية التجارب في تحسين أحوال بلادها الاقتصادية.
ومصر هي آخر الدول النامية التي تُعلن عن تعويم عملتها في العامين الماضيين، ذلك أن التعويم يعد عنصراً رئيسياً في الروشتة التي يفرضها صندوق النقد الدولي كمقدمة لأي قرض يقدمه، كما أن كثيراً من الاقتصاديين يوصون به؛ لأن تخفيض قيمة العملة الذي يتبع التعويم يمكن أن يعود بفوائد كبيرة على المدى الطويل، حسب رأيهم.
ورغم وجود العديد من التجارب على مستوى العالم لتعويم العملة الوطنية بأشكال مختلفة، وصلت إلى قرابة 9 دول، نجح بعضها وفشل البعض الآخر، فإن التجارب الأشهر المتقاربة مع اقتصاد مصر حالياً هي 5 حالات، أوردها تقرير لوكالة "بلومبرغ".
هذه الحالات هي: روسيا وكازاخستان والأرجنتين وأذربيجان ونيجيريا.
وفقاً للتقرير، فقد نجحت تجارب مثل البرازيل والأرجنتين، وفشلت تجارب مثل فنزويلا، وجاءت تجارب أخرى غير مكتملة مثل السودان والمغرب.
إليك التجارب الأقرب للحالة المصرية:
1- روسيا:
ماذا حدث؟: تخلت محافِظة البنك المركزي الروسي، الفيرا نابيولينا، عن التدخل في سوق العملة في نوفمبر 2014 في وقت كانت البلاد ترزح فيه تحت عقوبات وتراجع في أسعار النفط، وهو سلعتها التصديرية الأساسية.
وما زال الروبل، الذي عاود الارتفاع هذا العام (2016)، منخفضاً بنسبة 32 في المائة منذ ذلك الحين.
هل نجح التعويم؟: بعد مرور عامين، تراجع تقلب سعر الروبل على مدى 3 أشهر إلى مستويات لم تعرف منذ التعويم، وانخفضت توقعات التضخم، وتباطأ صافي خروج رأس المال، وحظيت التجربة بالإشادة، واعتبر كثيرون نابيولينا الأكثر حسماً بين محافظي البنوك المركزية في أوروبا.
وعلاوة على ذلك، فقدت العائلات الاهتمام بتأرجح سعر العملة وأصبحت تحتفظ بنسبة 60 في المائة من مدخراتها بالروبل، حسب استطلاع نُشرت نتائجه في أغسطس/آب 2016.
2- كازاخستان:
ماذا حدث؟: قرر صناع السياسات في 20 أغسطس 2015 محاكاة التخفيضات في الصين وروسيا جارتي كازاخستان وأكبر شركائها التجاريين، فهبط سعر العملة المحلية (التنجي) بنسبة 42%، منذ ذلك الوقت.
هل نجح التعويم؟: اضطر البنك المركزي إلى إنفاق 1.7 مليار دولار على الأقل أو 6% من الاحتياطيات لتقليل التأرجح في سعر ما أصبح أكثر عملات العالم تقلباً.
وبعد ذلك بعام، استقر "التنجي" وارتفع الاحتياطي من العملات الأجنبية بنحو 13 % هذا العام (2016) إلى 31 مليار دولار.
3- الأرجنتين
ماذا حدث؟: ألغى الرئيس موريسيو ماكري تثبيت سعر العملة (البيزو) في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، وكان هذا الإجراء جزءاً من إصلاح اقتصادي استهدف جذب الاستثمار وإعطاء انطلاقة قوية لاقتصاد عانى نمواً هزيلاً ونقص الدولارات.
هل نجح التعويم؟: نتج عن هذا انخفاض سعر العملة بنسبة 27% في اليوم الأول من التعويم، لكن التراجع تباطأ منذ ذلك الحين وظهرت إشارات على تراجع التضخم أيضاً.
كما انخفض تقلب "البيزو" خلال 3 أشهر ليصبح ضمن أقل المعدلات في أميركا اللاتينية.
وأظهر المستثمرون تجدد ثقتهم باقتصاد البلاد هذا العام بالتهام مبيعات قياسية للسندات الدولية بقيمة 33 مليار دولار، وفي الوقت نفسه قل استخدام المواطنين للسوق السوداء، وهو ما كان إجراء واسعاً قبل تعويم العملة.
4- أذربيجان
ماذا حدث؟: انتقلت الجمهورية السوفييتية سابقاً، المنتجة للنفط، إلى تعويم محكوم يوم 21 ديسمبر 2015 بعدما استخدم البنك المركزي أكثر من ثلثي احتياطياته لدعم العملة المحلية (مانات).
وقد نتج عن ذلك على الفور انخفاض قيمة العملة منذ ذلك الحين بنسبة 27%.
هل نجح التعويم؟: تدخلت السلطات لدعم العملة في سبتمبر/أيلول 2016، بعد انخفاض جديد في العملة على مدى 3 أشهر، وأرغمت البنوك على وقف مبيعاتها من الدولار أو الحد منها.
أدى التدخل الحكومي إلى فرض استقرار العملة المحلية، لكن درجة الإقبال على الاحتفاظ بها تقلصت، وكشف فشل أذربيجان في استعادة ثقة الشعب بالعملة بعد التخفيضات.
وأدي هذا إلى لجوء المواطنين إلى الادخار بالدولار لا العملة المحلية، حيث تبلغ المدخرات بالدولار حالياً نحو 80% من إجمالي المدخرات، حسب مؤسسة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني.
5 - نيجيريا
ماذا حدث؟: قرر صناع السياسات في نيجيريا، إنهاء سياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية (النيرة) يوم 20 يونيو/حزيران 2016، وتعويمها، ووقف ارتباطها بالدولار خلال 16 شهرا ، مما جعل سعر العملة في السوق السوداء يتراجع بنحو 50% عن السعر الرسمي حتى تم رفع القيود.
وقد هبطت العملة بنحو 30% في ذلك الوقت، ولم تنخفض منذ ذلك الحين إلا بنحو 10% فقط حتى الآن، وما زالت العملة النيجيرية تباع في السوق السوداء بسعر يقل بنحو 20% عن السعر الرسمي.
هل نجح التعويم؟ لم يكن لتعويم العملة جدوى كبيرة في استعادة المستثمرين الذين انتقدوا البنك المركزي بسبب تشدده في إدارة سعر الصرف واستجاب المستثمرون الأجانب ببطء في ظل هذه السياسة.
ونتيجة لذلك، عاد الفارق بين سعر السوق السوداء والسعر الرسمي إلى المستويات التي كان عليها قبل الخفض، وفي أثناء ذلك، استمر تراجع الاحتياطي من العملات الأجنبية إلى 23.8 مليار دولار منخفضاً بـ4 مليارات دولار عن مستواه في بداية عام 2016.
وقد نشرت صحيفة "كوارتز أفريقيا"، تقريراً بعنوان "دراسة حالة على نيجيريا.. حول أسباب تمنعك من تعويم عملتك"، يشرح مأساة انهيار عملة نيجيريا بعد قبولها نصائح صندوق النقد الدولي بتعويمها، واعتبرته درساً لمصر والدول التي تقبل نصائح الصندوق.
كما نشر مجلس العلاقات الخارجية الأميركي دراسة بعنوان "أزمة العملة في الأسواق الناشئة"، يشرح بوضوح أكبر مخاطر تعويم العملة في أي دولة، خاصة الأسواق الناشئة، وأثر ذلك على انهيار هذه الأسواق.
واعتبر التقرير أن قصة نيجيريا الكارثية مع تخفيض قيمة العملة بمثابة "رسالة تحذيرية" لمصر وكل دولة تقبل بنصائح صندوق النقد الدولي رغم أن مصر بعيدة، وفقاً لهيكل اقتصادها، عن نيجيريا.
وتتفق الحالة النيجيرية مع مصر، التي يرى خبراء أنها تأخرت بدورها في تعويم العملة حتى تفاقم الوضع الاقتصادي ولم يعد يجدي معه تعويم، ففي أبريل/نيسان 2016، قال وزير المالية النيجيري إن بلاده ترفض الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي، وأرجع ذلك إلى أن بلاده ليست مريضة، وحتى لو كانت كذلك، فلديها علاج محلي خاص بها.
وهو موقف مصر نفسه التي توصلت إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي في عام 2011، وفي العام نفسه رفضت الاستمرار في المفاوضات، وقالت: "إننا لسنا بحاجة إليه".
وبعد عام، توصلت مصر إلى اتفاق آخر على مستوى الخبراء في 2012، وجرى تأجيله بسبب المعارضة السياسية والخوف من اتخاذ خطوات إصلاحية مؤلمة. وفي الفترة من يوليو/تموز حتى أكتوبر/تشرين الأول 2013، عاد المسؤولون المصريون ليقولوا إننا لسنا بحاجة إلى قرض صندوق النقد الدولي، خاصة بعد وصول المساعدات الخليجية الوفيرة.
والآن، بعد ذلك، تدهورت الأحوال، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي لدى مصر، ولتجنّب اتخاذ قرار تخفيض العملة جاء التعويم الذي لا مفر منه بعد أن أصبحت الأوضاع أسوأ بكثير، بينما يقول خبراء إن اتباع نصائح الصندوق لم ينفع نيجيريا، ولا يعرف هل سيفيد مصر أم لا؟