الأرقام الأولية حول الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا عن الربع الرابع للسنة الماضية، كانت عبارة عن صدمة. أين يوجد الآن الانتعاش القوي الذي برر التقشف السريع من قبل الحكومة في المالية العامة؟ الجواب بكلمة واحدة: لم يتحقق.
ليس الموضوع فقط هو أن الناتج تراجع 0.5 في المائة عن الربع السابق. كان من المرجح دائماً أن يكون الانتعاش ''متقلباً على شكل موجات صغيرة'' كما ذكر ميرفن كينج، محافظ البنك المركزي البريطاني، في كلمة مهمة ألقاها هذا الأسبوع. لكن الأمر الأهم هو الصورة الكبيرة: في الربع الرابع كان الناتج أدنى 4.4 في المائة مما كان عليه في فترة ذروته الأخيرة، أي في الربع الأول من 2008، وكان الرقم هو نفسه الذي سُجِّل في الربع الأول من 2006، وكان أدنى 8 في المائة عن الاتجاه العام الذي سُجِّل خلال العقدين الأخيرين. باختصار، الاقتصاد ضعيف بالتأكيد.
ربما تتم مراجعة الهبوط على نحو يؤدي إلى اختفائه. لكن هذا ليس بالأمر المرجح. إن تعديل النسبة إلى الأعلى بنحو 0.5 في المائة أو أكثر، بين التقديرات الأولية وبين التقديرات التي جرت بعد ذلك بثلاث سنوات، هذا التعديل لم يحدث إلا ست مرات بين الربع الأول من 1993 والربع الرابع من 2007. كانت التعديلات بمتوسط 0.1 في المائة فقط. بالتالي فإن من المرجح تماماً أن الهبوط في الناتج المحلي الإجمالي، تراجع حقيقي.
فضلاً عن ذلك، هذا التراجع في اقتصاد هو أصلاً ضعيف بصورة تدعو إلى اليأس، لم يحدث قبيل بداية التأثير الفعلي القوي للتشدد في المالية العامة، وإنما حدث حين كانت أسعار الفائدة متدنية تماماً في الأجلين القصير والطويل.
وحيث إن التضخم تجاوز حدوده بنسبة لا يستهان بها، فإن احتمالات أن يكون لدى لجنة السياسة النقدية، الشجاعة لاتخاذ المزيد من إجراءات التسهيل الكمي، هي للأسف احتمالات شبه معدومة.
لقد دخل ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني في نقاش قوي ضمن مشاعر القلق حول الاتجاهات العامة التضخمية. كان هذا عملاً يتسم بالحمق. لكن لن يكون من شأنه إلا زيادة الضغط على لجنة السياسة النقدية.
مع ذلك ذكر كينج في كلمته أن مجاوزة التضخم للأرقام المستهدفة كان يعود إلى ثلاثة أسباب: الأول هو ارتفاع أسعار الواردات، نتيجة للتراجع الضروري والمرغوب في سعر صرف الجنيه الاسترليني في 2007 و2008؛ والثاني هو الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة بالدولار؛ والثالث هو القفزات في ضريبة القيمة المضافة.
يقول كينج: ''حين تؤخذ هذه العوامل الثلاثة معاً فإنها بحد ذاتها تفسر الزيادة المذهلة بنسبة 12 في المائة التي طرأت على مستوى الأسعار على مدى أربع سنوات.
من جانب آخر، فإن التكاليف المحلية هي تحت السيطرة: ارتفع متوسط الأرباح لثلاثة أشهر 2.1 في المائة فقط خلال السنة المنتهية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، في حين أن متوسط تكاليف وحدة العمل، كان يتسم بالتراجع منذ بداية السنة الماضية.
من الحمق أن نفكر في التشديد في السياسة النقدية (أي رفع أسعار الفائدة) في سبيل دفع الزيادات في الأجور إلى مستويات أدنى حتى من ذي قبل، بهدف موازنة ومعاكسة القفزات في أسعار الواردات وفي زيادات الأسعار التي تفرضها الحكومة.
وهذا التشديد كما يقول كينج، يفقد منطقيته ومعقوليته أكثر حتى من ذي قبل حين ''تؤدي العوامل الثلاثة التي تحدثنا عنها، أي ارتفاع أسعار الواردات والطاقة والضرائب، إلى اعتصار الدخل الحقيقي وتقليصه 12 في المائة.
في العادة يرتفع الدخل الحقيقي الذي يجنيه الشخص مع الزيادة في الإنتاجية، بمعنى أن مقادير الأجور المالية ترتفع في العادة بصورة أسرع من الأسعار. لكن العكس كان هو الصحيح خلال السنة الماضية، وبالتالي حدث تراجع حاد في الأجور الحقيقية. وبالنظر إلى الزيادات في ضريبة القيمة المضافة والزيادات الأخرى في الأسعار هذا العام، فإن من المرجح أن تتراجع الأجور الحقيقية مرة أخرى. نتيجة لذلك فإن الأجور الحقيقية في 2011 لا يرجح لها أن تكون أعلى مما كانت عليه الحال في 2005. لا شك أن الضغط الكبير على مداخيل الأسر لا يرحم.
في ظل هذه الأوضاع أجد من الصعب أن أفهم السبب في الثقة البالغة، التي تشعر بها الحكومة من أن الاقتصاد سيتحمل التقليص الحاد في المالية العامة الذي ينتظرنا في المرحلة المقبلة.
تعتمد هذه الثقة على وجهة نظر متفائلة بصورة مبالغ فيها، مفادها أن ارتفاع صافي الصادرات واستثمار الشركات من شأنه أن يعاكس ويلغي الأثر الانكماشي المترتب على القيود الشديدة على الإنفاق العام، والتراجع في الدخل الحقيقي القابل للتصرف لدى الأسر، والاحتمال الكبير بالمزيد من التراجعات في أسعار المساكن، والمديونية الهائلة للأسر، والنمو الضئيل في الأموال الواسعة والائتمان.
نحن لسنا أمام رياح تهب مباشرة في وجوهنا، وإنما نحن أمام رياح عاتية تضرب وجوهنا.
إذا كانت أي ثقة مفرطة من هذا القبيل موجودة قبل ظهور البيانات الأخيرة، فمن المفترض أن تكون قد تبخرت الآن.
صحيح أن الصادرات، كما يقول كينج، تظهر تحولاً يبعث على التشجيع: فقد قفز حجم الصادرات، باستثناء النفط والمواد التي لا يوجد لها اتجاه ثابت، بنسبة 25 بالمائة بين أيار (مايو) 2009 وتشرين الثاني (نوفمبر) 2010. لكن حجم الواردات المقابلة لهذه الصادرات ارتفع 22 في المائة.
بالتالي كان الأثر الصافي على الطلب متواضعاً. مرة أخرى أقول إنه ينبغي تعزيز الاستثمار. لكن بالنظر إلى الوضع الضعيف للاقتصاد، لماذا يُفترَض أن يكون هناك اختفاء سريع في الفائض المالي لقطاع الشركات غير المالية، عند نحو 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من 2010، على نحو يعاكس ويلغي أثر التشدد في المالية العامة؟
تلقت الحكومة الإنذار الآن. لوحظ أن القرار الخاص بمستوى الإنفاق في الأجل الطويل نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، هو من حيث الأساس مسألة تتعلق بالقيم السياسية. لكن مدى السرعة التي يتم بها تقليص العجز في المالية العامة هو مسألة أخرى. إذا كانت الحكومة تريد التمسك بخططها الخاصة بالمعدلات الحالية للإنفاق، فلتفعل. لكن لا يوجد سبب يدعو إلى عدم إتمام الخطط الاستثمارية القيمة، كما جادلتُ في مناسبات سابقة. كما أنه بالمقابل لا يوجد سبب قوي يدعو إلى عدم تأجيل الزيادات المزمعة في الضرائب، أو حتى تخفيض الضرائب الآن، إلى أن يصبح الاقتصاد أقوى بكثير مما هو عليه الآن.
تصلب وزير المالية جورج أوزبورن يعتبر هدية سياسية مقدمة إلى حزب العمال المعارِض وإلى إيد بولز، وزير المالية الجديد في حكومة الظل العمالية. إن مجرد التمني بأن تتحسن الأحوال هو بكل بساطة أمر منافٍ للمنطق. ينبغي على وزير المالية أن يتوقع حدوث الأسوأ، وأن يبدأ هذا التوقع في الوقت الحاضر بالذات.