أعرب المحلل الاقتصادي جدعون راخمان الكاتب في صحيفة “فايننشال تايمز” الاقتصادية البريطانية عن دهشته إزاء ما يمكن أن يصدر عن الغرب عندما تتبوأ الصين المرتبة الأولى على رأس قائمة الدول التي تمتلك أضخم الاقتصادات في العالم .
وقال راخمان: “قبل بضعة أسابيع أصدر صندوق النقد الدولي تقريراً أوضح فيه أن الصين ستتربع على عرش الاقتصاد العالمي في غضون السنوات الخمس المقبلة .
يشمل التقرير الدولي للاحتمالات المستقبلية توقع أن يقصي الاقتصاد الصيني “الأمريكي” ويطيحه من سدة التربع على عرش الاقتصاد العالمي بحلول العام 2016 وسيشمل ذلك تغيرات ستطرأ على القوة الشرائية المحلية لعملة كلا البلدين . ويفسر البعض بيانات الصندوق الدولي باعتبارها حركة يشك في مصداقيتها يراد منها تعزيز القامة الاقتصادية للصين شكلياً . ولكن حتى عندما يتم استخدام أسعار الصرف الحقيقية فإن ذلك لن يؤجل ذلك اليوم الذي ستتم فيه الإطاحة بالولايات المتحدة لتستقر بعيداً جداً عن زعامة الاقتصاد العالمي . لكن مجلة “ذا إكونومست” الاقتصادية البريطانية كانت توقعت قبل أعياد الميلاد الماضية بأن تصبح الصين الاقتصاد الأول في العالم بحلول العام 2019 .
وسيؤدي صعود الصين وتبوأها المكانة الاقتصادية الأولى في العالم إلى تغيير المفاهيم الخاصة بالقوى العظمى . فخلال القرن الأمريكي، تعود العالم على فكرة أن الولايات المتحدة الاقتصاد الأعظم في العالم كما أن الشعب الأمريكي الأكثر رخاء وبحبوحة في العالم أيضاً . كما يعيش في كنف هذا البلد أكثر الناس ثراء في العالم .
وفي الوقت الذي بدأت فيه الصين تصعد كقوة اقتصادية عالمية كبرى، بدأت العلاقة ما بين الرخاء القومي والشخصي تتداعى . وفي الواقع أن الصين تمتلك الضدين الأكثر ثراء وفقراً من العالم الغربي . فهي تتربع على أضخم احتياطي نقدي في العالم يصل إلى 3 تريليونات دولار . ومع ذلك فإن ذلك يشير بحسب أسعار صرف العملات إلى أن متوسط دخل المواطن الأمريكي يبلغ 10 أضعاف متوسط دخل المواطن الصيني .
إن هذا الرخاء النسبي للمجتمع الأمريكي هو أحد الأسباب التي لا ترى مانعاً بأن الصين التي ستصبح يوما ما من أقوى الدول في العالم ستتبوأ في الوقت ذاته المكانة الأولى بين اقتصادات العالم . ومن المتوقع أن يأتي ذلك اليوم الذي ستتراجع فيه مكانة الولايات المتحدة كقوة سياسية عظمى وحيدة في العالم، مع تراجع هيمنتها الاقتصادية . ولكن تمتلك الولايات المتحدة مكانة قوية وراسخة في المؤسسات العالمية .ودليل ذلك أن الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي كلها مؤسسات مقارها في الولايات المتحدة . كما أن حلف شمال الأطلسي “الناتو” أقيم على أسس ومفاهيم أمريكية .
وتمتلك الولايات المتحدة امتدادات عالمية وقدرات تقنية متطورة، وهو ما لم تقترب الصين من تحقيقه في المرحلة الحالية . كما أن الولايات المتحدة تسبقها في عالم البرمجيات، ولا تمتلك الصين صناعة سينما مشابهة لهوليوود أو سيليكون فالي أو “الحلم الأمريكي” .
ومع ذلك، فبينما ينظر إلى المؤسستين الاقتصادية والسياسية على أنهما ليستا كيانا واحدا والشيء ذاته، فإن هاتين القوتين لا تزالان تمثلان هيكلاً واحداً لا يمكن الفصل بينهما . وعندما بدأت الصين تحقق نسباً أعلى في الثراء، بدأ نفوذها على الساحة العالمية بالتصاعد .فخلال الزيارة الأخيرة التي قمت بها إلى سان باولو سمعت دبلوماسياً برازيلياً رفيع المستوى يقول بكل صراحة ووضوح إن الصين البعيدة جغرافيا هي الآن أكبر شريك تجاري للبرازيل .، وهي الآن أكثر أهمية للبرازيل من الولايات المتحدة . ولعل الزيارة الأولى، التي قامت بها الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف، كانت لبكين وجاءت واشنطن في المرتبة التالية على قائمة زياراتها . ويشار أيضاً إلى تضاعف حجم التجارة والاستثمار الصينيين على نحو ضخم مع إفريقيا والشرق الأوسط، وهو ما سيضاعف من تأثيرها وتمدد نفوذها . ويمكن أن نلمس ذلك التأثير أيضاً في البلدان المجاورة للصين مثل اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا التي ترى أن مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية تسير في اتجاهات مختلفة . وتقوم هذه البلدان الثلاثة بتعزيز علاقاتها الاقتصادية المهمة مع الصين في الوقت الذي تبقى على تحالفها العسكري قويا مع الولايات المتحدة . وتبين مؤشرات العام الماضي أن حلفاء واشنطن الآسيويين ربما يحتضنون العم سام حتى بحميمية أكبر، ولكن لفترة ما .ولكن مع مرور الوقت، فإن تزايد قوة الصين الاقتصادية سيكون له الأثر والوزن الأكبر في دعم وتقوية العلاقة معها .
تثار اليوم مناظرات حية حول الأسلوب الذي يمكن اللجوء إليه للتكيف مع القوة الصينية الناشئة، وهي مناظرات تزدحم بها كواليس الأقطار الآسيوية الآن . ولا يلبث المناظرون الآسيويون يرددون أن “الصين ستبقى في آسيا حتى ولو مر ألف عام، ولكن ما هو الضمان الذي سيجعلنا نتوقع أن يدوم بقاء الولايات المتحدة أكثر من 100 عام أخرى؟” .
وتتجمع فكرة قوة الصين الاقتصادية المتعاظمة وحالة القلق التي تنتاب الولايات المتحدة واليابان وأوروبا بسبب التصاعد المخيف للديون العامة لتضيف تحديات جديدة للأفكار الغربية الخاصة بالعلاقة ما بين الديمقراطية والنجاح الاقتصادي . وواكب تحول الولايات المتحدة إلى قوة اقتصادية عالمية في نهاية القرن التاسع عشر تحولها أيضاً إلى ملاذ للديمقراطية . ولكن إذا بقيت الصين دولة الحزب الواحد في العقد المقبل أيضا، فإن ذلك سيؤدي إلى التهديد بحدوث تغييرات . وسيتعرض شعار الغرب القائل إن “الحرية تؤكد نجاحها” لتحدٍ كبير في الوقت الذي سيصبح “الاستبداد” النهج السائد، مرة ثانية .