كيف عززت الحروب والتهديدات العسكرية الاستثمار في أمريكا والبلدان المتقدمة؟
التأمل فيما آلت إليه أوضاع البنية التحتية في ظل ضعف الأداء الحكومي في الولايات المتحدة وبعض الاقتصادات المتقدمة الأخرى، يزيد حيرة المحللين، لا سيما بعدما كانت هذه البلدان قادرة على الاستثمار بكثافة ذات مرة.
ويستشهد بعض الخبراء بالنشاط الدءوب لحكومتي الصين وسنغافورة كدليل على انتهاء صلاحية الديمقراطيات الليبرالية، لكن العلة التي يبحث عنها أهل الاقتصاد هنا ليست الديمقراطية وإنما قد تكون غياب الدافع الحكومي بحسب تقرير لـ"الإيكونوميست".
التهديد العسكري يحفز البناء الاقتصادي
لا شك أن الحرب مدخل للهلاك وتجنبها مأمول، إلا أنها كانت سمة شبه ثابتة للتاريخ الإنساني، ومحفزا دائما للتطور السياسي، وأصبحت أنظمة الدفاع للصالح العام، فلا يمكن حرمان شخص منه لعدم سداد مقابله.
- لا يوجد حافز يذكر لأي قوات مسلحة في تقديم الحماية، إلا إن كان بمقدورها الحصول على المقابل من المجتمع الذي تحميه، لكن التاريخ أثبت أن الحكومات الشرعية هي الأجدر والأكثر قابلية لحماية شعبها.
- مع نمو السكان وتطور التقنيات، أصبحت مهمة الدفاع عن المجتمعات أكثر تعقيدًا، وزاد ثقل المسؤوليات الحكومية، وتشير بحوث إلى أن نمو الطلب المالي للحرب بعد عام 1500 أسهم في تشكيل دول أوروبية كبيرة وقوية.
- ارتفاع تكلفة الحرب يعني أن الحفاظ على أمن الدولة يتطلب حكومة مركزية قوية قادرة على جمع مبالغ ضخمة من خلال الضرائب، أو عن طريق النظم المالية المركزية الحديثة التي تمليها البنوك المركزي.
- أكد بحث لـ" تيموثي بيسلي" و"تورستن بيرسون" أن الدولة التي تحسن نظامها الدفاعي يمكن أن تخلص لسياسة اقتصادية أفضل، إلى جانب القدرة على استخدام النظام الضريبي لنقل الثروة مباشرة (ما يضمن فعالية إعادة التوزيع).
التجربة الأمريكية
زاد اهتمام البلدان بالتقدم التكنولجي مع تزايد المنافسة العسكرية، لكن الثورة الصناعية وعصر الحرب الشاملة أحدثا تغيرات جذرية، وكانت الحكومة الفيدرالية الأمريكية آنذاك بطيئة في الانخراط بتعليم الشباب وتركت الأمر للحكومات المحلية.
- لكن الأمور تغيرت عام 1958 عندما وقع الرئيس الأمريكي "دوايت آيزنهاور" قانونًا بتخصيص مليار دولار (8 مليارات بقيمة العملة الأمريكية اليوم) لتحسين التعليم في العلوم والرياضيات واللغات ومنح قروض لطلاب الجامعات.
- جاء هذا القانون تحت اسم "قانون التعليم الوطني للدفاع" كرد على إطلاق القمر الصناعي "سبوتنيك"، وسط مخاوف بفقدان الولايات المتحدة للريادة التكنولوجية لصالح الاتحاد السوفيتي، وهو أمر جلل في عصر الصواريخ النووية العابرة للقارات.
- في دراسة أخرى لـ"بيرسون" حول الاستثمار في التعليم الأساسي على مدار 150 عامًا، وجد أن الاستثمارات في بعض الأحيان تتزايد بدفع من التنافس العسكري أو كرد على الحروب والتهديدات الإستراتيجية.
- لم يكن التعليم وحده المستفيد، يعود الفضل في تأسيس وكالة أبحاث الدفاع الأمريكية ووكالة "ناسا" لتحركات عصر "آيزنهاور"، وكذلك يعود الفضل في تشييد شبكة الطرق السريعة والواسعة في الولايات المتحدة لذات الغرائز الدفاعية.
عالم بلا بنية تحتية أم عالم بلا سلام
هناك أسباب اقتصادية جيدة تدعو للاستثمار في السلع العامة، وتعزيز القدرة المالية وشبكة الأمان الاجتماعي، لكن مستوى تفضيل استثمارات البنية التحتية التي ينظر لها باعتبارها تحصينًا للأمن الوطني يختلف من مجتمع لآخر.
- الميزانيات العسكرية الضخمة لها تكلفة، والدول الكبرى التي تميل للتجانس السياسي يصعب إرضاء ناخبيها.
- من ناحية أخرى قد تميل البلدان التي تواجه تهديدات أمنية أقل لتكون أصغر حجمًا، لكن انفصال البلدان في حد ذاته قد يخلق صراعات.
- العالم الذي يتسم بالسلام لكن بلا بنية تحتية ملائمة أفضل بالتأكيد من عالم يشهد حروبا متواصلة لكن مع طرقات سريعة جيدة وخدمات عالية الكفاءة.
- لكن يظل الخطر يتركز في الإحباط السياسي الذي يمكن القادة القوميين ويؤجج التوترات الجيوسياسية، وهو ما قد يدفع الحكومات للطرق السيئة القديمة لحلها.