تمخضت «بازل» فولدت فأرا
مارتن وولف
للاحتفال بالذكرى السنوية الثانية لانهيار بنك ليمان براذرز، كابد جبل بازل وجاهد بأقصى طاقته ثم تمخض فولد فأراً. من نافلة القول إن الصناعة البنكية ستصر على أن الفأر هو في الحقيقة نمر في سبيله إلى ابتلاع الاقتصاد العالمي. هذه النداءات والمناشدات الخاصة، وهي أساليب تتفوق فيها هذه الصناعة المدللة، ينبغي تجاهلها، لأن سَحب الحوافز المشجعة على السلوك المتهور ليس تكلفة على المجتمع، بل تكلفة عالية على المستفيدين. لا يجب أن نخلط بين المستفيدين وبين المجتمع. العالم في حاجة إلى صناعة بنكية أصغر وأكثر أمناً من ذي قبل. والخلل الموجود في الأنظمة الجديدة هو أنها ستخفق في إعطائنا هذا المطلب. هل رأيي هذا يتسم بالقسوة الشديدة؟ تقول ''فاينانشيال تايمز'': ''الأنظمة البنكية العالمية أبرمت صفقة مفادها مضاعفة الاحتياطيات الرأسمالية التي يجب أن تكون لدى البنوك العالمية للتحوط ضد الخسائر بنسبة ثلاث مرات''. هذا يبدو متطلباً قاسياً، لكنه لن يبدو كذلك إلا في عين الشخص الذي يخفق في أن يدرك أن مضاعفة رقم صغير قريب من الصفر بنسبة ثلاث مرات لن يحقق شيئاً يذكر. الأنظمة الجديدة تضع نسبة رأسمالية بحسب الوزن النسبي للمخاطر مقدارها 4.5 في المائة، وهي نسبة تزيد على ضعف النسبة الحالية البالغة 2 في المائة، إضافة إلى حاجز وقاية جديد بنسبة 2.5 في المائة. والبنوك التي يهبط رأسمالها إلى منطقة الحاجز ستواجه قيوداً على توزيع الأرباح على أسهمها وقيوداً على العلاوات التي تصرف بناء على ترتيبات خاصة. بالتالي الأنظمة تضع سقفاً عملياً بنسبة 7 في المائة. لكن المعايير الجديدة سيتم تنفيذها كاملة بحلول عام 2019، أي بعد مرور فترة ربما يشهد العالم فيها أزمة مالية أخرى، أو أزمتين. هذا القدر من حقوق الملكية أقل بكثير من المستويات التي يمكن أن تفرضها السوق إذا لم يستمر المستثمرون في أن يتوقعوا من الحكومات أن تنقذ الدائنين في حالة الأزمة، كما تبين التجربة التاريخية. لن يحتاج الأمر إلى كارثة كبيرة حتى تُدفع هذه المؤسسات المحمولة بالرفع المالي إلى مستوى قريب من الإعسار وانعدام الملاءة، على نحو يثير الهلع لدى الدائنين غير المؤَمَّنين. كذلك، هذه النسب الجديدة هي إلى حد كبير من بنات أفكار القوانين التنظيمية السابقة والمعروفة باسم ''بازل 2''، فهي تعتمد على ما ينبغي أن يكون الآن نظاماً مرذولاً من الوزن النسبي للمخاطر، وهي إحدى النقاط التي يطرحها مارتن هيلفيج، من معهد ماكس بلانك في ألمانيا، في بحث ممتاز نشر في الفترة الأخيرة حول الإفلاس الفكري للمناهج الحالية الرامية إلى تنظيم رأس المال. ولعل من الأفضل أن نعتبر هذه المتطلبات الجديدة أنها ''نسبة انعدام الكفاية الرأسمالية''.
عدد من المحللين يُدخِلون الأثر المحتمل للأنظمة داخل النماذج الاقتصادية المعيارية. بصورة خاصة، بنك التسويات الدولية ومجلس الاستقرار المالي نشرا بحثاً جاء في نتيجته أن ''التقديرات تشير إلى أن زيادة بنسبة 1 في المائة في النسبة المستهدفة من حقوق الملكية المشتركة الملموسة إلى الموجودات المقيسة بالوزن النسبي للمخاطر، ستؤدي إلى هبوط متوسط في مستوى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تبلغ في أقصى حالاتها 0.19 في المائة من المسار الأساسي بعد أربع سنوات ونصف''. لكن المفاجأة الكبرى تأتينا من المدافعين عن الصناعة البنكية، حين يقولون لنا إن التقديرات تشير إلى أن النسبة ستكون أكبر ثماني مرات تقريباً. ويرد التقرير الرسمي على ذلك بصورة جافة بقوله: ''تفترض تقديرات الصناعة أنه في غياب أي تعزيز للأنظمة، فإن البنوك ستفضل زيادة مستوياتها من الرفع المالي خلال السنوات المقبلة، ما يجعلها تعود إلى المستويات التي كانت سائدة في الفترة السابقة مباشرة على الأزمة، وتفترض أن العائد اللازم على حقوق الملكية في المؤسسات المالية سيرتفع مع ضعف شبكة الأمان المقدمة من الحكومة، وتفترض أن الصلة بين مجموع نمو الائتمان والناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تعادل تقريباً المتوسط من فترة النمو العالي للائتمان التي كانت سابقة على الأزمة''.
أي نماذج من هذا القبيل لتكاليف التنظيم هي عبارة عن هاملت، لكن دون وجود الشبح، بمعنى أنها تتجاهل الأمر الذي يحرك الحبكة. (في مسرحية هاملت لشكسبير يظهر شبح والد هاملت ليخبر هاملت أنه قُتل على يد أخيه، الذي استولى على الملك وتزوج زوجة أخيه، ويطالب الشبح هاملت بالانتقام لمقتله). لا نستطيع تقييم تكاليف الأنظمة المفروضة دون أن ندرك عدداً من الحقائق: أولاً، نجا الاقتصاد والنظام المالي لتوهما من موت شبه محقق. ثانياً، تشتمل تكاليف الأزمة على ملايين العاطلين عن العمل وعشرات التريليونات من الناتج الضائع، كما يجادل أندي هالدين من بنك إنجلترا. ثالثاً، أنقذت الحكومات النظام المالي من خلال توزيع مخاطره وتحميلها على المجتمع. رابعاً وأخيراً، الصناعة المالية هي الصناعة الوحيدة التي تتمتع بقدرة لا حد لها على الاستفادة من الأموال العامة، ونتيجة لذلك هي أكثر صناعة تتلقى الدعم الحكومي في العالم من بين جميع الصناعات. من الضروري أن نعود إلى المبادئ الأولى في تقييم التكاليف المزعومة لزيادة المتطلبات الرأسمالية ومتطلبات السيولة. أولاً، ليس من الصحيح أن حقوق الملكية مكلفة، كما يجادل بحث ممتاز آخر بقلم أنات أدماتي (الأستاذ في جامعة ستانفورد) وآخرون، حين نقبل بالحقيقة القائلة إن مزيدا من حقوق الملكية يقلص المخاطر على الدائنين وعلى دافعي الضرائب، وهي حقيقة ينبغي علينا أن نقبل بها. تقليص حقوق الملكية يعني ارتفاع العوائد، لكنه يعني كذلك ارتفاع المخاطر. ثانياً، إلى الحد الذي يتحمل فيه الدائنون تكاليف الإخفاق، فإن المزيد من حقوق الملكية يعني تراجع تكاليف الديون. بالتالي، إذا كانت الديون بالفعل غير مدعومة من الحكومة، فإن تغيير نسبة حقوق الملكية إلى الدين ينبغي ألا يؤثر على تكاليف تمويل الميزانية العمومية. ثالثاً، إلى الحد الذي يتحمل فيه دافعو الضرائب تكاليف المخاطر، فإن المزيد من حقوق الملكية سيعوض عن هذا الدعم الضمني. الناس بصورة عامة لديهم اهتمام قيمته صفر بتقديم الدعم للمخاطر التي تتخذها البنوك، بصورة عامة، بل يمكن أن نقول في الواقع إن لديهم اهتماما سلبيا بذلك (بمعنى أنهم يعارضون تقديم الدعم). لهذا السبب مبالغ الدعم التي يعرضها الجمهور من خلال تقديم التأمين المجاني لا بد أن يتم التعويض عنها من خلال فرض متطلبات رأسمالية أعلى. رابعاً، لدى الجمهور اهتمام بفرض متطلبات أعلى في حقوق الملكية، تزيد على ما يمكن أن يرغب أي بنك في تحمله من أجل مصلحته الخاصة. وتخلق البنوك بطبيعتها مخاطر تؤثر على النظام بكامله. ولا بد من امتصاص واستيعاب هذه التكلفة من قبل صانعي السياسة. وإحدى السبل للقيام بذلك هي المزيد من الطاقة لتحمُّل المخاطر. أخيراً، إلى الحد الذي يريد فيه الجمهور شكلاً محدداً من الدعم الحكومي المقدم في سبيل اتخاذ المخاطر، أي الإقراض إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة، ينبغي عليه أن يفعل ذلك بصورة مباشرة. إن تقديم الدعم إلى النظام البنكي ككل، وحمله على الاقتناع بالقيام بأمر لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من نشاطه، يعد أمرا يفتقر إلى الكفاءة بصورة مذهلة. النتيجة إذن هي أن متطلبات حقوق الملكية بحاجة إلى أن تكون أعلى بكثير من ذي قبل، وربما ينبغي أن تصل إلى مستوى 20 في المائة أو 30 في المائة، دون احتساب الوزن النسبي للمخاطر. في هذه الحالة سيكون من الممكن التخلص من الأشكال المختلفة من رأس المال الاحتياطي التي يرجح لها بصورة كبيرة للغاية أن ترفع بقوة من مستوى الهلع في حالة وقوع الأزمة بدلاً من تخفيفه. إن كوننا أصبحنا معتادين على هذه الهياكل الهشة بصورة غير عادية هو السبب الوحيد في أن هذا الطلب يبدو مثيراً للاستفزاز إلى حد كبير. ليس معنى ذلك أننا ننكر وجود مشكلتين هائلتين. المشكلة الأولى هي أن الانتقال الذي من هذا القبيل سيكون مثل إبعاد المخدرات عن المدمن. أبسط طريقة لتقليص التكاليف إلى الحد الأدنى هي أن تقوم الحكومات بضمان رأس المال الإضافي، ثم مع مرور الزمن تبيع ما تأخذه في السوق. وحتى في هذه الحالة، فإن مجموع الميزانيات العمومية للنظام البنكي سيكون على الأرجح بحاجة إلى التقلص. حين يتم التخفيف من الرفع المالي على هذا النحو سيكون في حكم المؤكد أن هذا سيعني فترة أطول من حالات العجز الكبيرة في المالية العامة تفوق ما يمكن لأي شخص أن يتصوره في المرحلة الحالية. المشكلة الأخرى هي أنه توجد إمكانية هائلة لحدوث المراجحة التنظيمية، ما يؤدي إلى نقل المخاطر إلى بلدان أخرى في النظام. يمكن لهذه المخاطر بكل سهولة أن تنهار وتعود إلى النظام البنكي. بالتالي، زيادة المتطلبات الرأسمالية للبنوك لن تنجح إلا إذا كان بمقدور الأجهزة التنظيمية معرفة وتحديد ظهور المخاطر الشاملة في بلدان أخرى. وتحاول الأجهزة التنظيمية تقليص عدم الأمان في النظام المالي القائم بصورة تدريجية وجزئية. وهذا أفضل من لا شيء، لكنه لم يخلق نظاماً مأموناً. وليس في مقدور العالم أن يتحمل أزمة أخرى مماثلة على مدى جيل آخر على الأقل. ومن خلال هذه المعايير، فإن ما يظهر إلى حيز الوجود هو ببساطة غير كاف. هذا الفأر لن يتمكن أبداً من الزئير بصوت مرتفع بما فيه الكفاية.